الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، مَعَ مَا أَنْشَأَ مِنَ الْجَنَّاتِ الْمَعْرُوشَاتِ وَغَيْرِ الْمَعْرُوشَاتِ. وَ “ الْحَمُولَةُ “، مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا. وَ “ الْفَرْشُ “، صِغَارُ الْإِبِلِ الَّتِي لَمْ تُدْرَكْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ كِبَارِ الْإِبِلِ وَمَسَانِّهَا وَ“ الْفَرْشُ “، صِغَارُهَا الَّتِي لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا لِصِغَرِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا)، قَالَ: “ الْحَمُولَةُ “، الْكِبَارُ مِنَ الْإِبِلِ “ وَفَرْشًا “، الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ الْحَمُولَةُ “، هِيَ الْكِبَارُ، وَ“ الْفَرْشُ “، الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا حَمَلَ مِنَ الْإِبِلِ، وَ“ الْفَرْشُ “، مَا لَمْ يَحْمِلْ. وَبِهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا حَمَلَ مِنَ الْإِبِلِ، وَ“ الْفَرْشُ “، مَا لَمْ يَحْمِلْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (وَفَرْشًا)، قَالَ: صِغَارُ الْإِبِلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا)، قَالَ: “ الْحَمُولَةُ “، الْكِبَارُ، وَ“ الْفَرْشُ “، الصِّغَارُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا)، “ الْحَمُولَةُ “، مَا حَمَلَ مِنَ الْإِبِلِ، وَ“ الْفُرَشُ “، هُنَّ الصِّغَارُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا)، قَالَ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ، وَ“ الْفَرْشُ “، الصِّغَارُ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ مُحَمَّدٌ، قَالَ شُعْبَةُ: إِنَّمَا كَانَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: “ الْحَمُولَةُ “، مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: “ الْحَمُولَةُ “، مِنَ الْإِبِلِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ “ الْحَمُولَةِ “، فَهُوَ “ الْفَرْشُ “. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا)، قَالَ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا حُمِلَ عَلَيْهِ، وَ“ الْفَرْشُ “، حَوَاشِيهَا، يَعْنِي صِغَارَهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا)، فَ “ الْحَمُولَةُ “، مَا حَمَلَ مِنَ الْإِبِلِ، وَ“ الْفَرْشُ “، صِغَارُ الْإِبِلِ، الْفَصِيلُ وَمَا دُونُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْمِلُ. وَيُقَالُ: “ الْحَمُولَةُ “، مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَ“ الْفَرْشُ “، الْغَنَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَ“ الْفَرْشُ “، الْغَنَمُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}، فَأَمَّا “ الْحَمُولَةُ “، فَالْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا “ الْفَرْشُ “، فَالْغَنَمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: “ الْحَمُولَةُ “، مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَ“ فَرْشًا “: الْمَعْزُ وَالضَّأْنُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}، قَالَ: أَمَّا “ الْحَمُولَةُ “، فَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ. قَالَ: وَأَمَّا “ الْفَرْشُ “، فَالْغَنَمُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، كَانَ غَيْرُ الْحَسَنِ يَقُولُ: “ الْحَمُولَةُ “، الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَ“ الْفَرْشُ “، الْغَنَمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا}، أَمَّا “ الْحَمُولَةُ “، فَالْإِبِلُ. وَأَمَّا “ الْفَرْشُ “، فَالْفُصْلَانُ وَالْعَجَاجِيلُ وَالْغَنَمُ. وَمَا حَمَلَ عَلَيْهِ فَهُوَ “ حَمُولَةٌ “. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا)، “ الْحَمُولَةُ “، الْإِبِلُ، وَ“ الْفَرْشُ “، الْغَنَمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ: (وَفَرْشًا)، قَالَ: “ الْفَرْشُ “، الْغَنَمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (حَمُولَةً وَفَرْشًا) قَالَ: “ الْحَمُولَةُ “، مَا تَرْكَبُونَ، وَ“ الْفَرْشُ “، مَا تَأْكُلُونَ وَتَحْلِبُونَ، شَاةٌ لَا تَحْمِلُ، تَأْكُلُونَ لَحْمَهَا، وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِهَا لِحَافًا وَفَرْشًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ “ الْحَمُولَةَ “، هِيَ مَا حَمَلَ مِنَ الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا إِذَا حَمَلَتْ، لَا أَنَّهُ اسْمٌ لَهَا، كَالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، فَإِذَا كَانَتْ إِنَّمَا سُمِّيَتْ “ حَمُولَةً “ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا حَمَلَ عَلَى ظَهْرِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ فَحَمُولَةً. وَهِيَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، كَالرَّكُوبَةِ، وَ“ الْجَزُورَةِ “. وَكَذَلِكَ “ الْفَرْشُ “، إِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِمَا لَطَفَ فَقَرُبَ مِنَ الْأَرْضِ جِسْمُهُ، وَيُقَالُ لَهُ: “ الْفَرْشُ “. وَأَحْسَبُهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَمْثِيلًا لَهَا فِي اسْتِوَاءِ أَسْنَانِهَا وَلُطْفِهَا بِالْفَرْشِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي يَتَوَطَّؤُهَا النَّاسُ. فَأَمَّا “ الْحُمُولَةُ “، بِضَمِّ “ الْحَاءِ “، فَإِنَّهَا الْأَحْمَالُ، وَهِيَ “ الْحُمُولُ “ أَيْضًا بِضَمِّ الْحَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَأَحَلَّ لَكُمْ ثَمَرَاتِ حُرُوثِكُمْ وَغُرُوسِكُمْ، وَلُحُومَ أَنْعَامِكُمْ، إِذْ حَرَّمَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، فَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا وَلِلشَّيْطَانِ مِثْلَهُ، فَقَالُوا: “ {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} “ {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، كَمَا اتَّبَعَهَا بَاحِرُو الْبَحِيرَةِ، وَمُسَيِّبُو السَّوَائِبِ، فَتُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ طِيبِ رِزْقِ اللَّهِ الَّذِي رَزَقَكُمْ مَا حَرَّمُوهُ، فَتُطِيعُوا بِذَلِكَ الشَّيْطَانَ، وَتَعْصُوا بِهِ الرَّحْمَنَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، لَا تَتَّبِعُوا طَاعَتَهُ، هِيَ ذُنُوبٌ لَكُمْ، وَهِيَ طَاعَةٌ لِلْخَبِيثِ. إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ يَبْغِي هَلَاكَكُمْ وَصَدَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ رَبِّكُمْ (مُبِينٌ)، قَدْ أَبَانَ لَكُمْ عَدَوَاتَهُ، بِمُنَاصَبَتِهِ أَبَاكُمْ بِالْعَدَاوَةِ، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ بِكَيْدِهِ، وَخَدْعِهِ حَسَدًا مِنْهُ لَهُ، وَبَغْيًا عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَقْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، الَّذِينَ بَحَرُوا الْبَحَائِرَ، وَسَيَّبُوا السَّوَائِبَ، وَوَصَلُوا الْوَصَائِلَ وَتَعْلِيمٌ مِنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَنْشَأَ حَمُولَةً وَفَرْشًا. ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ “ الْحَمُولَةَ “ وَ“ الْفَرْشَ “، فَقَالَ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ). وَإِنَّمَا نَصَبَ “ الثَّمَانِيَةَ “؛ لِأَنَّهَا تَرْجَمَةٌ عَنْ “ الْحَمُولَةِ “ وَ“ الْفَرْشِ “، وَبَدَلٌ مِنْهَا. كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَنْشَأَ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ فَلَمَّا قَدَّمَ قَبْلَ “ الثَّمَانِيَةِ “ “ الْحَمُولَةَ “ وَ“ الْفَرْشَ “ بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْدُ فَقَالَ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى. {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ مِنَ الضَّأْنِ زَوْجٌ، فَالْأُنْثَى مِنْهُ زَوْجُ الذَّكَرِ، وَالذَّكَرُ مِنْهُ زَوْجُ الْأُنْثَى، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْزِ وَمِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ. فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، كَمَا قَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}، [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 49]؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ زَوْجُ الْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى زَوْجُ الذَّكَرِ، فَهُمَا وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ فِيهِمَا زَوْجَانِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}، [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 189]، وَكَمَا قَالَ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 37]، وَكَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنْ الضَّحَّاكِ: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)، ذَكَرٌ وَأُنْثَى، (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)، ذَكَرٌ وَأُنْثَى (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ)، ذَكَرٌ وَأُنْثَى. وَيُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: “ هُمَا زَوْجٌ “، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ: مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ *** زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وَقِرَامُهَا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الثِّمَارِ وَاللُّحُومِ، وَارْكَبُوا هَذِهِ الْحَمُولَةَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ بِغَيْرِ أَمْرِي إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ. قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ اتِّبَاعًا لِلشَّيْطَانِ، مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مُحَرِّمُونَ مِنْ ذَلِكَ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ رَبُّكُمْ، أَيُّهَا الْكَذَبَةُ عَلَى اللَّهِ، مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ؟ فَإِنَّهُمْ إِنِ ادَّعَوْا ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ، كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَبَانُوا جَهْلَهُمْ. لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: “ يُحَرِّمُ الذَّكَرَيْنِ مِنْ ذَلِكَ “، أَوْجَبُوا تَحْرِيمَ كُلِّ ذَكَرَيْنِ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَهُمْ يَسْتَمْتِعُونَ بِلُحُومِ الذُّكْرَانِ مِنْهَا وَظُهُورِهَا. وَفِي ذَلِكَ فَسَادُ دَعْوَاهُمْ وَتَكْذِيبُ قَوْلِهِمْ (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)، فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا: “ حَرَّمَ رَبُّنَا الْأُنْثَيَيْنِ “، أَوْجَبُوا تَحْرِيمَ لُحُومِ كُلِّ أُنْثَى مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَظُهُورِهَا. وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَكْذِيبٌ لَهُمْ، وَدَحْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ رَبَّهُمْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا يَسْتَمْتِعُونَ بِلُحُومِ بَعْضِ ذَلِكَ وَظُهُورِهِ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، يَقُولُ: أَمْ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، يَعْنِي أَرْحَامَ أُنْثَى الضَّأْنِ وَأُنْثَى الْمَعْزِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: “ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ “، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا لَوْ أَقَرُّوا بِهِ فَقَالُوا: “ حَرَّمَ عَلَيْنَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ “، بُطُولُ قَوْلِهِمْ وَبَيَانُ كَذِبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذُكُورَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَإِنَاثَهَا، أَنْ يَأْكُلُوا لُحُومَهَا أَوْ يَرْكَبُوا ظُهُورَهَا، وَقَدْ كَانُوا يَسْتَمْتِعُونَ بِبَعْضِ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا. وَ “ مَا “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، نُصِبَ عَطْفًا بِهَا عَلَى “ الْأُنْثَيَيْنِ “. (نَبَّئُونِي بِعِلْمٍ)، يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: خَبِّرُونِي بِعِلْمِ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ: أَيُّ ذَلِكَ حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، وَكَيْفَ حَرَّمَ؟ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فِيمَا تَنْحَلُونَهُ رَبَّكُمْ مِنْ دَعْوَاكُمْ، وَتُضِيفُونَهُ إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِكُمْ. وَإِنَّمَا هَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ وَأَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الْآيَةَ، إِنَّ كُلَّ هَذَا لَمْ أُحَرِّمْ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، قَالَ: سَلْهُمْ: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، أَيْ: لَمْ أُحَرِّمْ مِنْ هَذَا شَيْئًا (بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فَذَكَرَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ نَحْوَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، فِي شَأْنِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، قَالَ: هَذَا فِي شَأْنِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسُّيَّبِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ حَرَّمْتُ هَذَا؟ مِنْ قِبَلِ الذَّكَرَيْنِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ وَإِنَّهَا لَا تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ التَّحْرِيمُ؟ فَأَجَابُوا هُمْ: وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، يَقُولُ: أَنْزَلْتُ لَكُمْ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ هَذَا الَّذِي عَدَدْتُ، ذِكْرٌ وَأُنْثَى، فَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ يَقُولُ: أَيْ: مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، مَا تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَمَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى مِنَ الثَّمَانِيَةِ. إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا مِنْ أَجْلِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، قَالَ: مَا حَمَلَتِ الرَّحِمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}، قَالَ: هَذَا لِقَوْلِهِمْ: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، قَالَ: “ الْأَنْعَامُ “، هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ، هَذِهِ “ الْأَنْعَامُ “ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: “ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ “. قَالَ: وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}، نَحْتَجِرُهَا عَلَى مَنْ نُرِيدُ، وَعَمَّنْ نُرِيدُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا}، قَالَ: لَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}، فَقَالَ: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}، أَيُّ هَذَيْنَ حَرَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ؟ أَيْ: أَنْ تَكُونَ لِهَؤُلَاءِ حِلًّا وَعَلَى هَؤُلَاءِ حَرَامًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، يَعْنِي: هَلْ تَشْتَمِلُ الرَّحِمُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؟ فَهَلْ يُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَيُحِلُّونَ بَعْضًا؟. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَزْوَاجٍ {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}، يَقُولُ: لَمْ أُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، يَقُولُ: كُلُّهُ حَلَالٌ. وَ “ الضَّأْنُ “ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقَدْ يُجْمَعُ “ الضَّأْنُ “، “ الضَّئِينَ وَالضِّئِينَ “، مِثْلَ “ الشَّعِيرِ “ وَ“ الشِّعِيرِ “، كَمَا يُجْمَعُ “ الْعَبْدُ “ عَلَى “ عَبِيدٍ، وَعِبِيدٍ “. وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنْ ذُكُورِهِ فَ “ ضَائِنٌ “، وَالْأُنْثَى “ ضَائِنَةٌ “، وَجَمْعُ “ الضَّائِنَةِ “ “ ضَوَائِنُ “. وَكَذَلِكَ “ الْمَعْزُ “، جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ “ الْمِعْزَى “، وَأَمَّا “ الْمَاعِزُ “، فَجَمْعُهُ “ مَوَاعِزُ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}، نَحْوُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَزْوَاجٍ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَا مِنَ الْأَزْوَاجِ الْأَرْبَعَةِ قَبْلُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ أَزْوَاجٍ، كَمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَقُولَ لِهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَصَّ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي مَضَتْ. يَقُولُ لَهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: قُلْ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، أَيَّ هَذِهِ سَأَلْتُكُمْ عَنْ تَحْرِيمِهِ حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ؟ فَإِنْ أَجَابُوكَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا سَأَلْتَهُمْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْ لَهُمْ: أَخَبَرًا قُلْتُمْ: “ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا عَلَيْكُمْ “، أَخْبَرَكُمْ بِهِ رَسُولٌ عَنْ رَبِّكُمْ، أَمْ شَهِدْتُمْ رَبَّكُمْ فَرَأَيْتُمُوهُ فَوَصَّاكُمْ بِهَذَا الَّذِي تَقُولُونَ وَتُزَوِّرُونَ عَلَى اللَّهِ؟ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ مِنْ إِخْبَارِكُمْ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ حَرَامٌ بِمَا تَزْعُمُونَ عَلَى مَا تَزْعُمُونَ، لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ مَعَ رَسُولٍ يُرْسِلُهُ إِلَى خَلْقِهِ، أَوْ بِسَمَاعٍ مِنْهُ، فَبِأَيِّ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بِرَسُولٍ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، فَأَنْبَئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟ أَمْ شَهِدْتُمْ رَبَّكُمْ فَأَوْصَاكُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ لَكُمْ: “ حَرَّمْتُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ “، فَسَمِعْتُمْ تَحْرِيمَهُ مِنْهُ، وَعَهْدَهُ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، يَقُولُ: فَمَنْ أَشَدُّ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْحَقِّ مِمَّنْ تَخَرَّصَ عَلَى اللَّهِ قِيلَ الْكَذِبِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ تَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْ، وَتَحْلِيلَ مَا لَمْ يُحَلِّلْ (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، يَقُولُ: لِيَصُدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، يَقُولُ: لَا يُوَفِّقُ اللَّهُ لِلرُّشْدِ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَقَالَ عَلَيْهِ الزُّورَ وَالْكَذِبَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ تَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْ، كُفْرًا بِاللَّهِ، وَجُحُودًا لِنُبُوَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}، الَّذِي تَقُولُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَذَا. فَقَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَلِشُرَكَائِهِمْ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ مِثْلَهُ وَالْقَائِلِينَ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَالْمُحَرِّمِينَ مِنْ أَنْعَامٍ أُخَرَ ظُهُورَهَا وَالتَّارِكِينَ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَى أُخَرَ مِنْهَا وَالْمُحَرِّمِينَ بَعْضَ مَا فِي بُطُونِ بَعْضِ أَنْعَامِهِمْ عَلَى إِنَاثِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ، وَمُحَلِّيهِ لِذُكُورِهِمْ، الْمُحَرِّمِينَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَإِضَافَةً مِنْهُمْ مَا يُحَرِّمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ: أَجَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ بِتَحْرِيمِهِ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، فَأَنْبَئُونَا بِهِ، أَمْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِهِ مُشَاهَدَةً مِنْكُمْ لَهُ، فَسَمِعْتُمْ مِنْهُ تَحْرِيمَهُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَحَرَّمْتُمُوهُ؟ فَإِنَّكُمْ كَذَبَةٌ إِنِ ادَّعَيْتُمْ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُكُمْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّكُمْ إِذَا ادَّعَيْتُمُوهُ عَلِمَ النَّاسُ كَذِبَكُمْ فَإِنِّي لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مِنْ كِتَابِهِ وَآيِ تَنْزِيلِهِ، شَيْئًا مُحَرَّمًا عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ مِمَّا تَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْعَامِ الَّتِي تَصِفُونَ تَحْرِيمَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مِنْهَا بِزَعْمِكُمْ “ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً “، قَدْ مَاتَتْ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ “ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا “، وَهُوَ الْمُنْصَبُّ أَوْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا)، يَقُولُ: أَوْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِسْقًا، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَوْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْبُوحًا ذَبَحَهُ ذَابِحٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لِصَنَمِهِ وَآلِهَتِهِ، فَذَكَرَ عَلَيْهِ اسْمَ وَثَنِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الذَّبْحَ فِسْقٌ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ، وَنَهَى مَنْ آمَنَ بِهِ عَنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ. وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَادَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِمَا جَادَلُوهُمْ بِهِ، أَنَّ الَّذِي جَادَلُوهُمْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْحَرَامُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنَّ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ حَلَالٌ قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُمْ كَذَبَةٌ فِي إِضَافَتِهِمْ تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ وَيُحِلُّونَ أَشْيَاءَ، فَقَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ مِمَّا كُنْتُمْ تُحَرِّمُونَ وَتَسْتَحِلُّونَ إِلَّا هَذَا: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا مِمَّا كُنْتُمْ تَسْتَحِلُّونَ إِلَّا هَذَا وَكَانَتْ أَشْيَاءَ يُحَرِّمُونَهَا، فَهِيَ حَرَامٌ الْآنَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، قَالَ: مَا يُؤْكَلُ. قُلْتُ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ! وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}، قَالَ: مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ، لَا أَجِدُ مُحَرَّمًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَوْ دَمًا مُسَالًا مُهْرَاقًا. يُقَالُ مِنْهُ: “ سَفَحْتُ دَمَهُ “، إِذَا أَرَقْتُهُ، أَسَفَحُهُ سَفْحًا، فَهُوَ دَمٌ مَسْفُوحٌ “، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ: إِنِّي وَجَدِّكَ مَا هَجَوْتُكَ وَالْ *** أَنْصَابِ يَسْفَحُ فَوْقَهُنَّ دَمُ وَكَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: إِذَا مَا عَادَهُ مِنْهَا نِسَاءٌ *** سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بَعْدِ الرَّنِينِ يَعْنِي: صَبَبْنَ، وَأَسَلْنَ الدَّمْعَ. وَفِي اشْتِرَاطِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الدَّمِ عِنْدَ إِعْلَامِهِ عِبَادَهُ تَحْرِيمَهُ إِيَّاهُ، الْمَسْفُوحَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَسْفُوحًا، فَحَلَالٌ غَيْرُ نَجِسٍ. وَذَلِكَ كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، قَالَ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَتَتَبَّعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعُرُوقِ مَا تَتَبَّعَتِ الْيَهُودُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، فِي الْقِدْرِ يَعْلُوهَا الْحُمْرَةُ مِنَ الدَّمِ. قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: سَأَلَتْهُ عَنِ الدَّمِ وَمَا يَتَلَطَّخُ بِالْمَذْبَحِ مِنَ الرَّأْسِ، وَعَنِ الْقِدْرِ يَرَى فِيهَا الْحُمْرَةَ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، قَالَ: حُرِّمَ الدَّمُ مَا كَانَ مَسْفُوحًا; وَأَمَّا لَحْمٌ خَالَطَهُ دَمٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}، يَعْنِي: مُهَرَاقًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، قَالَ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَتَتَبَّعَ الْمُسْلِمُونَ عُرُوقَ اللَّحْمِ كَمَا تَتَبَّعَهَا الْيَهُودُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَة: أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى بِلُحُومِ السِّبَاعِ بَأْسًا، وَالْحُمْرَةِ وَالدَّمِ يَكُونَانِ عَلَى الْقِدْرِ بَأْسًا، وَقَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}... الْآيَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ، وَذَكَرَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، قُلْتُ: وَإِنَّ الْبُرْمَةَ لَيُرَى فِي مَائِهَا [مِنَ] الصُّفْرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّامَعْنَى “ الرِّجْسِ“، فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَأَنَّهُ النَّجِسُ وَالنَّتِنُ، وَمَا يُعْصَى اللَّهُ بِهِ، بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى “ الْفِسْقِ “ وَفِي قَوْلِهِ: (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)، قَدْ مَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ بِشَوَاهِدِهِ الْكَافِيَةِ مَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ، عَنْ تَكْرَارِهِ وَإِعَادَتِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً). فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ)، بِالْيَاءِ (مَيْتَةً) مُخَفَّفَةَ الْيَاءِ مَنْصُوبَةً، عَلَى أَنَّ فِي “ يَكُونَ “ مَجْهُولًا وَ“ الْمَيْتَةُ “ فِعْلٌ لَهُ، فَنُصِبَتْ عَلَى أَنَّهَا فِعْلَ “ يَكُونَ “، وَذَكَّرُوا “ يَكُونَ “، لِتَذْكِيرِ الْمُضْمَرِ فِي “ يَكُونَ “. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ: “ إِلَّا أَنْ تَكُونَ “، بِالتَّاءِ “ مَيْتَةً “، بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مِنَ “ الْمَيْتَةِ “ وَنَصْبِهَا وَكَأَنَّ مَعْنَى نَصْبِهِمُ “ الْمَيْتَةَ “ مَعْنَى الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّثُوا “ تَكُونَ “ لِتَأْنِيثِ الْمَيْتَةِ، كَمَا يُقَالُ: “ إِنَّهَا قَائِمَةٌ جَارِيَتُكَ “، وَ“ إِنَّهُ قَائِمٌ جَارِيَتُكَ “، فَيُذَكَّرُ الْمَجْهُولُ مَرَّةً وَيُؤَنَّثُ أُخْرَى، لِتَأْنِيثِ الِاسْمِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ: “ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ “، بِالتَّاءِ فِي “ تَكُونَ “، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ “ مَيِّتَةٌ “ وَرَفْعِهَا فَجَعَلَ “ الْمَيِّتَةَ “ اسْمَ “ تَكُونَ “، وَأَنَّثَ “ تَكُونَ “ لِتَأْنِيثِ “ الْمَيِّتَةِ “، وَجَعَلَ “ تَكُونَ “ مُكْتَفِيَةً بِالِاسْمِ دُونَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: “ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ “ اسْتِثْنَاءٌ، وَالْعَرَبُ تَكْتَفِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْأَسْمَاءِ عَنِ الْأَفْعَالِ، فَيَقُولُونَ: “ قَامَ النَّاسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخَاكَ “، وَ“ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخُوكَ “، فَلَا تَأْتِي لِ “ يَكُونَ “، بِفِعْلٍ، وَتَجْعَلُهَا مُسْتَغْنِيَةً بِالِاسْمِ، كَمَا يُقَالُ: “ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَخَاكَ “ وَ“ إِلَّا أَخُوكَ “، فَلَا يَفْتَقِدُ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ فِعْلًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) بِ “ الْيَاءِ “ (مَيْتَةً)، بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَنَصْبِ “ الْمَيْتَةِ “؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي “ يَكُونَ “ مِنَ الْمُكَنَّى مِنْ ذِكْرِ الْمُذَكَّرِ وَإِنَّمَا هُوَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ “ مَيِّتَةٌ “ بِالرَّفْعِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعَرَبِيَّةِ غَيْرَ خَطَأٍ، فَإِنَّهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ صَوَابٍ. لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ فِي قِرَاءَةِ “ الدَّمِ “ بِالنَّصْبِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى “ الْمَيْتَةِ “. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ “ الْمَيْتَةَ “ لَوْ كَانَتْ مَرْفُوعَةً، لَكَانَ “ الدَّمُ “، وَقَوْلُهُ “ أَوْ فِسْقًا “، مَرْفُوعَيْنِ، وَلَكِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ، فَيُعْطَفُ بِهِمَا عَلَيْهَا بِالنَّصْبِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ عِنْدَنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فِي “ سُورَةِ “ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ: فَمَنِاضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ إِيَّاهُ تَلَذُّذًا، لَا لِضَرُورَةِ حَالَةٍ مِنَ الْجُوعِ، وَلَا عَادٍ فِي أَكْلِهِ بِتَجَاوُزِهِ مَا حَدَّهُ اللَّهُ وَأَبَاحَهُ لَهُ مِنْ أَكْلِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْخَوْفَ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ أَكْلِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، لَمْ يَتَجَاوَزْ ذَلِكَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ مَا أَكَلَ مِنْ ذَلِكَ (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ)، فِيمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَسَاتِرٌ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ عُقُوبَتَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَاءَ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ (رَحِيمٌ)، بِإِبَاحَتِهِ إِيَّاهُ أَكْلَ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَوْ شَاءَ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَرَّمْنَا عَلَى الْيَهُودِ “ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ “، وَهُوَ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْقُوقَ الْأَصَابِعِ، كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، وَهُوَ الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، قَالَ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَابِّ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، قَالَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مُتَفَرِّقِ الْأَصَابِعِ، وَمِنْهُ الدِّيكُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)،: النَّعَامَةُ وَالْبَعِيرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، فَكَانَ يُقَالُ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ وَأَشْبَاهُهُ مِنَ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)، قَالَ: الْإِبِلُ وَالنَّعَامُ، ظُفُرُ يَدِ الْبَعِيرِ وَرِجْلُهُ، وَالنَّعَامُ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا مِنَ الطَّيْرِ الْبَطُّ وَشُبْهُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ بِمَشْقُوقِ الْأَصَابِعِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ أَمَّا كُلُّ ذِي ظُفُرٍ “، فَالْإِبِلُ وَالنَّعَامُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، قَالَ: النَّعَامَةُ وَالْبَعِيرُ، شَقًّا شَقًّا، قَالَ قُلْتُ: “ مَا شَقًّا شَقًّا “؟ قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ تُفْرَجْ قَوَائِمُهُ لَمْ يَأْكُلْهُ الْيَهُودُ، الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ. وَالدَّجَاجُ وَالْعَصَافِيرُ تَأْكُلُهَا الْيَهُودُ، لِأَنَّهَا قَدْ فُرِجَتْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)، قَالَ: النَّعَامَةُ وَالْبَعِيرُ، شَقًّا شَقًّا. قُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ وَحَدِّثْنِيهِ: مَا “ شَقًّا شَقًّا “؟ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يُفْرَجْ مِنْ قَوَائِمِ الْبَهَائِمِ. قَالَ: وَمَا انْفَرَجَ أَكَلَتْهُ الْيَهُودُ. قَالَ: انْفَرَجَتْ قَوَائِمُ الدَّجَاجِ وَالْعَصَافِيرِ، فَيَهُودُ تَأْكُلُهَا. قَالَ: وَلَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَةُ الْبَعِيرِ، خُفُّهُ، وَلَا خُفُّ النَّعَامَةِ، وَلَا قَائِمَةُ الْوَزِّينَةِ، فَلَا تَأْكُلُ الْيَهُودُ الْإِبِلَ وَلَا النَّعَامَ وَلَا الْوَزِّينَ، وَلَا كُلَّ شَيْءٍ لَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَا تَأْكُلُ حِمَارَ وَحْشٍ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، الْإِبِلُ قَطْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ قَالَ بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْخَبَرِ إِلَّا مَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ النَّعَامُ وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ مِمَّا لَهُ ظُفُرٌ غَيْرُ مُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ دَاخِلًا فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْخَبَرِ، إِذْ لَمْ يَأْتِ بِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ، خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ أَكْثَرُهَا مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ دَاخِلٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي“ الشُّحُومِ “ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى الْيَهُودِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ شُحُومُ الثُّرُوبِ خَاصَّةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}، الثُّرُوبُ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الثُّرُوبَ ثُمَّ أَكَلُوا أَثْمَانَهَا!» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ كَانَ كُلَّ شَحْمٍ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلِطًا بِعَظْمٍ وَلَا عَلَى عَظْمٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}، قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الثَّرْبَ، وَكُلَّ شَحْمٍ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ شَحْمُ الثَّرْبِ وَالْكُلَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}، قَالَ: الثَّرْبُ وَشَحْمُ الْكُلْيَتَيْنِ. وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ، فَنَحْنُ نُحَرِّمُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}، قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الثُّرُوبَ وَالْكُلْيَتَيْنِ هَكَذَا هُوَ فِي كِتَابِي عَنْ يُونُسَ، وَأَنَا أَحْسَبُ أَنَّهُ: “ الْكُلَى “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ شُحُومَهُمَا، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ مِنْهَا مِمَّا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ. فَكُلُّ شَحْمٍ سِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ «: “ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا ثُمَّ بَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا “ ». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِلَّا شُحُومَ الْجَنْبِ وَمَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}، يَعْنِي: مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشُّحُومِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا “ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا “، فَالْأَلْيَاتُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْأَلْيَةُ، مِمَّا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوِ الْحَوَايَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَ“ الْحَوَايَا “ جَمْعٌ، وَاحِدُهَا “ حَاوِيَاءُ “، وَ“ حَاوِيَةٌ “، وَ“ حَوِيَّةٌ “، وَهِيَ مَا تَحَوَّى مِنَ الْبَطْنِ فَاجْتَمَعَ وَاسْتَدَارَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّبَنِ، وَهِيَ “ الْمَبَاعِرُ “، وَتُسَمَّى “ الْمَرَابِضَ “، وَفِيهَا الْأَمْعَاءُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا، إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا، أَوْ مَا حَمَلَتِ الْحَوَايَا فَ “ الْحَوَايَا “، رَفْعٌ، عَطْفًا عَلَى “ الظُّهُورِ “، وَ“ مَا “ الَّتِي بَعْدَ “ إِلَّا “، نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ “ الشُّحُومِ “. وَبِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَوِ الْحَوَايَا)، وَهِيَ الْمَبْعَرُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبْعَرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ الْحَوَايَا “، الْمَبْعَرُ وَالْمَرْبَضُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبْعَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبَاعِرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبَاعِرُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبْعَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبْعَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَالْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْمَبْعَرُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (أَوِ الْحَوَايَا)، يَعْنِي: الْبُطُونَ غَيْرَ الثُّرُوبِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (أَوِ الْحَوَايَا)، هُوَ الْمَبْعَرُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: الْمَبَاعِرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (أَوِ الْحَوَايَا)، قَالَ: “ الْحَوَايَا “، الْمَرَابِضُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْأَمْعَاءُ، تَكُونُ وَسَطَهَا، وَهِيَ “ بَنَاتُ اللَّبَنِ “، وَهِيَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تُدْعَى “ الْمَرَابِضَ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَى الَّذِينَ هَادُوا شُحُومَهُمَا، سِوَى مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا، أَوْ مَا حَمَلَتْ حَوَايَاهُمَا، فَإِنَّا أَحْلَلْنَا ذَلِكَ لَهُمْ، وَإِلَّا مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فَهُوَ لَهُمْ أَيْضًا حَلَالٌ. فَرَدَّ قَوْلَهُ: (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، عَلَى قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) فَ “ مَا “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى “ مَا “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا). وَعَنَى بِقَوْلِهِ: (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، شَحْمَ الْأَلْيَةِ وَالْجَنْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، قَالَ: شَحْمُ الْأَلْيَةِ بِالْعُصْعُصِ، فَهُوَ حَلَالٌ. وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ قَدِ اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فَهُوَ حَلَالٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، مِمَّا كَانَ مِنْ شَحْمٍ عَلَى عَظْمٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهَذَا الَّذِي حَرَّمْنَا عَلَى الَّذِينَ هَادُوا مِنَ الْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ، ذَوَاتِ الْأَظَافِيرِ غَيْرِ الْمُنْفَرِجَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ شُحُومِهِمَا، الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، حَرَّمْنَاهُ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً مِنَّا لَهُمْ، وَثَوَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَبَغْيِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، إِنَّمَا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً بِبَغْيِهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)، فَعْلَنَا ذَلِكَ بِهِمْ بِبَغْيِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)، يَقُولُ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِي خَبَرِنَا هَذَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ عَمَّا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّحُومِ وَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِنَا، وَهُمُ الْكَاذِبُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَرَّمُوهُ لِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمُ الْمُجْرِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ كَذَّبَكَ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ أَنَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَحَلَلْنَا لَهُمْ، كَمَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ “ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ “، بِنَا، وَبِمَنْ كَانَ بِهِ مُؤْمِنًا مِنْ عِبَادِهِ، وَبِغَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ “ وَاسِعَةٍ “، تَسَعُ جَمِيعَ خَلْقِهِ، الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ، لَا يُعَاجِلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَا مَنْ عَصَاهُ بِالنِّقْمَةِ، وَلَا يَدَعُ كَرَامَةَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ، وَلَا يُحْرِمُهُ ثَوَابَ عَمَلِهِ، رَحْمَةً مِنْهُ بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ بَأْسَهُ وَذَلِكَ سَطْوَتُهُ وَعَذَابُهُ لَا يَرُدُّهُ إِذَا أَحَلَّهُ عِنْدَ غَضَبِهِ عَلَى الْمُجْرِمِينَ بِهِمْ عَنْهُمْ شَيْءٌ وَ“ الْمُجْرِمُونَ “ هُمُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا فَاكْتَسَبُوا الذُّنُوبَ وَاجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ)، الْيَهُودُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ)، الْيَهُودُ {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ يَعْنِي الثَّرْبَ وَشَحْمَ الْكُلْيَتَيْنِ فَنَحْنُ نُحَرِّمُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا)، وَهُمُ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، يَقُولُ: قَالُوا احْتِجَازًا مِنَ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْحُجَّةِ، لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، وَعَلِمُوا بَاطِلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَتَحْرِيمِهِمْ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا}، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ مِنَّا الْإِيمَانَ بِهِ، وَإِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ الْأَوْثَانِ وَالْآلِهَةِ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِنَا، مَا جَعَلْنَا لِلَّهِ شَرِيكًا، وَلَا جَعَلَ ذَلِكَ لَهُ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا، وَلَا حَرَّمْنَا مَا نُحَرِّمُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَحْنُ عَلَى تَحْرِيمِهَا مُقِيمُونَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَكُونَ لَنَا إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَبِيلٌ: إِمَّا بِأَنْ يَضْطَرَّنَا إِلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الشِّرْكِ بِهِ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمْنَا وَإِمَّا بِأَنْ يَلْطُفَ بِنَا بِتَوْفِيقِهِ، فَنَصِيرَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ مَا دُونَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ، وَإِلَى تَحْلِيلِ مَا حَرَّمْنَا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ مِنَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَاتِّخَاذِ الشَّرِيكِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَرَادَ مَا نُحَرِّمُ مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ، فَلَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ مُكَذِّبًا لَهُمْ فِي قِيلِهِمْ: “ إِنَّ اللَّهَ رَضِيَ مِنَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَتَحْرِيمِ مَا نُحَرِّمُ “ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ بَاطِلَ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ حُجَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، يَقُولُ: كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، يَا مُحَمَّدُ، مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَيَانِ، كَذَّبَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ فَسَقَةِ الْأُمَمِ الَّذِينَ طَغَوْا عَلَى رَبِّهِمْ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَوَاضِحِ حُجَجِهِ، وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ نَصَائِحَهُمْ (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا)، يَقُولُ: حَتَّى أَسْخَطُونَا فَغَضِبْنَا عَلَيْهِمْ، فَأَحْلَلْنَا بِهِمْ بَأْسَنَا فَذَاقُوهُ، فَعَطِبُوا بِذَوْقِهِمْ إِيَّاهُ، فَخَابُوا وَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. يَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الْآخَرُونَ مَسْلُوكٌ بِهِمْ سَبِيلَهُمْ، إِنْ هُمْ لَمْ يُنِيبُوا فَيُؤْمِنُوا وَيُصَدِّقُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، وَقَالَ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: “ عِبَادَتُنَا الْآلِهَةَ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى “، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّهَا لَا تُقَرِّبُهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)، قَالَ: قَوْلُ قُرَيْشٍ يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذِهِ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)، قَوْلُ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ يَقِينٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذِهِ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا كَذَّبَ مِنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَوْلَهُمْ: “ رَضِيَ اللَّهُ مِنَّا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَرَادَ مِنَّا تَحْرِيمَ مَا حَرَّمْنَا مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ “، دُونَ أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبُهُ إِيَّاهُمْ كَانَ عَلَى قَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، وَعَلَى وَصْفِهِمْ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ قَدْ شَاءَ شِرْكَهُمْ وَشِرْكَ آبَائِهِمْ، وَتَحْرِيمَهُمْ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ؟ قِيلَ لَهُ: الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَلَكُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا آتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَتَحْرِيمِ غَيْرِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَسْلَكَ أَسْلَافَهُمْ مِنَ الْأُمَمُ الْخَالِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَالتَّكْذِيبُ مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِمُكَذَّبٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَنْ كَذِبِهِمْ فِي قِيلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، لَقَالَ: “كَذَلِكَ كَذَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ “، بِتَخْفِيفِ “ الذَّالِ “، وَكَانَ يَنْسِبُهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، لَا إِلَى التَّكْذِيبِ مَعَ عِلَلٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الْمُحَرِّمِينَ مَا هُمْ لَهُ مُحَرِّمُونَ مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ، الْقَائِلِينَ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ مِنَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ مَا نُحَرِّمُ: “ هَلْ عِنْدَكُمْ “، بِدَعْوَاكُمْ مَا تَدَّعُونَ عَلَى اللَّهِ مِنْ رِضَاهُ بِإِشْرَاكِكُمْ فِي عِبَادَتِهِ مَا تُشْرِكُونَ، وَتَحْرِيمِكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا تُحَرِّمُونَ عِلْمُ يَقِينٍ مِنْ خَبَرِ مَنْ يَقْطَعُ خَبَرُهُ الْعُذْرَ، أَوْ حُجَّةٌ تُوجِبُ لَنَا الْيَقِينَ، مِنَ الْعِلْمِ “ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا “، يَقُولُ: فَتُظْهِرُوا ذَلِكَ لَنَا وَتُبَيِّنُوهُ، كَمَا بَيَّنَّا لَكُمْ مَوَاضِعَ خَطَأِ قَوْلِكُمْ وَفِعْلِكُمْ، وَتَنَاقُضَ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَتَهُ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، يَقُولُ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ، أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، وَتَعْبُدُونَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ مَا تَعْبُدُونَ، وَتُحَرِّمُونَ مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ مَا تُحَرِّمُونَ، إِلَّا ظَنًّا وَحُسْبَانًا أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّكُمْ عَلَى حَقٍّ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَنْتُمْ عَلَى بَاطِلٍ (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)، يَقُولُ: “ وَإِنْ أَنْتُمْ “، وَمَا أَنْتُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ “ إِلَّا تَخْرُصُونَ “، يَقُولُ: إِلَّا تَتَقَوَّلُونَ الْبَاطِلَ عَلَى اللَّهِ، ظَنًّا بِغَيْرِ يَقِينِ عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَاضِحٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الْقَائِلِينَ عَلَى رَبِّهِمُ الْكَذِبَ، فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ، إِنْ عَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عِنْدَ قِيلِكَ لَهُمْ: “ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ بِمَا تَدَّعُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا “، وَعَنْ إِخْرَاجِ عِلْمِ ذَلِكَ لَكَ وَإِظْهَارِهِ، وَهُمْ لَا شَكَّ عَنْ ذَلِكَ عَجَزَةٌ، وَعَنْ إِظْهَارِهِ مُقَصِّرُونَ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ (فَلِلَّهِ)، الَّذِي حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَتَبَّعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنَ الْحُرُوثِ وَالْأَنْعَامِ (الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)، دُونَكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ. وَيَعْنِي بِ “ الْبَالِغَةُ “، أَنَّهَا تَبْلُغُ مُرَادَهُ فِي ثُبُوتِهَا عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَطْعِ عُذْرِهِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ فِيمَا جُعِلَتْ حُجَّةً فِيهِ. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، يَقُولُ: فَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَوَفَّقَكُمْ أَجْمَعِينَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَالدَّيْنُونَةِ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ، وَتَرْكِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، فَخَالَفَ بَيْنَ خَلْقِهِ فِيمَا شَاءَ مِنْهُمْ، فَمِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ مُؤْمِنٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَصَى اللَّهَ، وَلَكِنْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى عِبَادِهِ. وَقَالَ: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، قَالَ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 23].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى رَبِّهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، الزَّاعِمِينَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مُحَرِّمُوهُ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ)، يَقُولُ: هَاتُوا شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا تَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ. وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ مِنْ تِهَامَةَ تُوَحِّدُ “ هَلُمَّ “ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ، وَتُذَكِّرُ فِي الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكِّرِ، فَتَقُولُ لِلْوَاحِدِ: “ هَلُمَّ يَا فُلَانُ “، وَلِلِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ كَذَلِكَ، وَلِلْأُنْثَى مِثْلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً *** هَلُمَّ إِلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ يَنْشُدُ: “ هَلُمَّ “، وَ“ هَلُمُّوا “. وَأَمَّا أَهْلُ السَّافِلَةِ مِنْ نَجْدَ، فَإِنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ لِلْوَاحِدِ، وَيُثَنُّونَ لِلِاثْنَيْنِ، وَيَجْمَعُونَ لِلْجَمِيعِ. فَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ: “ هَلُمَّ “ وَلِلْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ: “ هَلُمِّي “، وَلِلِاثْنَيْنِ: “ هَلُمَّا “، وَلِلْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ: “ هَلُمُّوا “، وَلِلنِّسَاءِ: “ هَلْمُمْنَ “. قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: (فَإِنْ شَهِدُوا)، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَإِنْ جَاءُوكَ بِشُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، فَإِنَّهُمْ كَذَبَةٌ وَشُهُودُ زُورٍ فِي شَهَادَتِهِمْ بِمَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ. وَخَاطَبَ بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، يَقُولُ: وَلَا تُتَابِعُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ، فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ، وَتَحْلِيلِ مَا أَحَلَّ لَهُمْ، وَلَكِنِ اتِّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، يَقُولُ: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، فَتُكَذِّبَ بِمَا هُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ مِنْ إِحْيَاءِ اللَّهِ خَلْقَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَنَشْرِهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، يَقُولُ: وَهُمْ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَجُحُودِهِمْ قِيَامَ السَّاعَةِ، بِاللَّهِ يَعْدِلُونَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، فَيَجْعَلُونَهَا لَهُ عِدْلًا وَيَتَّخِذُونَهَا لَهُ نِدًّا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}، يَقُولُ: قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا مِمَّا حَرَّمَتِ الْعَرَبُ، وَقَالُوا: أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ. قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا}، قَالَ: الْبَحَائِرُ وَالسُّيَّبُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الزَّاعِمِينَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مُحَرِّمُوهُ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ فِي تَنْزِيلِي عَلَيْكَ: تَعَالَوْا، أَيُّهَا الْقَوْمُ، أَقْرَأْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ حَقًّا يَقِينًا، لَا الْبَاطِلَ تَخَرُّصًا، تَخَرُّصَكُمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْفِرْيَةَ ظَنًّا، وَلَكِنْ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ أَوْحَاهُ إِلَيَّ، وَتَنْزِيلًا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ: أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا تَعْدِلُوا بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَلَا تَعْبُدُوا شَيْئًا سِوَاهُ (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، يَقُولُ: وَأَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَحَذَفَ “ أَوْصَى “ وَ“ أَمَرَ “، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ السَّامِعِ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ. وَأَمَّا “ أَنْ “ فِي قَوْلِهِ: (أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، فَرَفْعٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، هُوَ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَانَ فِي قَوْلِهِ: (تُشْرِكُوا)، وَجْهَانِ: الْجَزْمُ بِالنَّهْيِ، وَتَوْجِيهُ “ لَا “ إِلَى مَعْنَى النَّهْيِ. وَالنَّصْبُ، عَلَى تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَى الْخَبَرِ، وَنَصْبُ “ تُشْرِكُوا “، بِ “ أَنْ لَا “، كَمَا يُقَالُ: “ أَمَرْتُكَ أَنْ لَا تَقُومَ “. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ “ أَنْ “ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، رَدًّا عَلَى “ مَا “ وَبَيَانًا عَنْهَا، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: (تُشْرِكُوا)، أَيْضًا مِنْ وَجْهَيِ الْإِعْرَابِ، نَحْوُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْهُ. وَ“ أَنْ “ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: قُلْ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَتْلُ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (تُشْرِكُوا) نَصْبًا بِ “ أَنْ لَا “، أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ: “ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ “، عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ جَزْمِ النَّهْيِ؟ قِيلَ: جَازَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، فَجَعَلَ “ أَنْ أَكُونَ “ خَبَرًا، وَ“ أَنْ “ اسْمًا، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ “ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ “، [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 14]، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: حَجَّ وَأَوْصَى بِسُلَيْمَى الْأَعْبُدَا *** أَنْ لَا تَرَى وَلَا تُكَلِّمْ أَحَدَا وَلَا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا *** فَجَعَلَ قَوْلَهُ: “ أَنْ لَا تَرَى “ خَبَرًا، ثُمَّ عَطَفَ بِالنَّهْيِ فَقَالَ: “ وَلَا تُكَلِّمْ “، “ وَلَا يَزَلْ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}، وَلَا تَئِدُوا أَوْلَادَكُمْ فَتَقْتُلُوهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الْفَقْرِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِنَفَقَاتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُمْ، فَتَخَافُوا بِحَيَاتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْعَجْزَ عَنْ أَرْزَاقِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ. وَ “ الْإِمْلَاقُ “، مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ أَمَلَقْتُ مِنَ الزَّادِ، فَأَنَا أَمْلَقُ إِمْلَاقًا “، وَذَلِكَ إِذَا فَنِيَ زَادُهُ، وَذَهَبَ مَالُهُ، وَأَفْلَسَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}، الْإِمْلَاقُ الْفَقْرُ، قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}، أَيْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}، قَالَ: “ الْإِمْلَاقُ “، الْفَقْرُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: (مِنْ إِمْلَاقٍ)، قَالَ: شَيَاطِينُهُمْ، يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ خِيفَةَ الْعَيْلَةِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ إِمْلَاقٍ)، يَعْنِي: مِنْ خَشْيَةِ فَقْرٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَقْرَبُوا الظَّاهِرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْكُمْ، الَّتِي هِيَ عَلَانِيَةٌ بَيْنَكُمْ لَا تُنَاكِرُونَ رُكُوبَهَا، وَالْبَاطِنَ مِنْهَا الَّذِي تَأْتُونَهُ سِرًّا فِي خَفَاءٍ لَا تُجَاهِرُونَ بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَرَامٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ: لَا تَقْرَبُوا مَا ظَهَرَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَمَا بَطَنَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ مِنْ مَعَانِي الزِّنَى بَعْضًا [دُونَ بَعْضٍ]. وَلَيْسَ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَدْفُوعٍ، غَيْرَ أَنَّ دَلِيلَ الظَّاهِرِ مِنَ التَّنْزِيلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ظَاهِرِ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَبَاطِنِهَا، وَلَا خَبَرَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، بِأَنَّهُ عُنِيَ بِهِ بَعْضٌ دُونَ جَمِيعٍ. وَغَيْرُ جَائِزٍ إِحَالَةُ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ إِلَى بَاطِنٍ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ خَاصُّ الْمَعْنَى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، أَمَّا “ مَا ظَهَرَ مِنْهَا “، فَزَوَانِي الْحَوَانِيتِ، وَأَمَّا “ مَا بَطَنَ “، فَمَا خَفِيَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَسِرُّونَ بِالزِّنَى، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ حَلَالًا مَا كَانَ سِرًّا. فَحَرَّمَ اللَّهُ السِّرَّ مِنْهُ وَالْعَلَانِيَةَ (مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، يَعْنِي الْعَلَانِيَةَ (وَمَا بَطَنَ)، يَعْنِي السِّرَّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرَوْنَ بِالزِّنَى بَأْسًا فِي السِّرِّ، وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ مَا ظَهَرَ “، نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ “ وَمَا بَطَنَ “، الزِّنَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، قَالَ: “ مَا ظَهَرَ “، جَمْعٌ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَتَزْوِيجُ الرَّجُلِ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ “ وَمَا بَطَنَ “، الزِّنَى. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ زِيَادٍ الْعَطَّارُ النَّصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ شَاكِرٍ الْبَاهِلِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، قَالَ: “ مَا ظَهَرَ “، الْخَمْرُ “ وَمَا بَطَنَ “، الزِّنَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، يَعْنِي بِالنَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، نَفْسَ مُؤْمِنٍ أَوْ مُعَاهِدٍ وَقَوْلُهُ: (إِلَّا بِالْحَقِّ)، يَعْنِي بِمَا أَبَاحَ قَتْلَهَا بِهِ: مِنْ أَنْ تَقْتُلَ نَفْسًا فَتُقْتَلَ قَوَدًا بِهَا، أَوْ تَزْنِيَ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ فَتُرْجَمَ، أَوْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الْحَقِّ فَتُقْتَلَ. فَذَلِكَ “ الْحَقُّ “ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَتْلَهَا بِهِ (ذَلِكُمْ)، يَعْنِي: هَذِهِ الْأُمُورُ- الَّتِي عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهَا رَبُّنَا أَنْ لَا نَأْتِيَهُ وَأَنْ لَا نَدَعَهُ- هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي وَصَّانَا وَالْكَافِرِينَ بِهَا أَنْ نَعْمَلَ جَمِيعًا بِهِ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، يَقُولُ: وَصَّاكُمْ بِذَلِكَ لِتَعْقِلُوا مَا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَتَثْمِيرُهُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، قَالَ: التِّجَارَةُ فِيهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فَلْيُثْمِرْ مَالَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ الْعَنَزِيُّ، عَنْ سَلِيطِ بْنِ بِلَالٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، قَالَ: يَبْتَغِي لَهُ فِيهِ، وَلَا يَأْخُذْ مِنْ رِبْحِهِ شَيْئًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، قَالَ: “ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ “، أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ إِنِ افْتَقَرَ، وَإِنِ اسْتَغْنَى فَلَا يَأْكُلْ. قَالَ اللَّهُ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، [سُورَةُ النِّسَاءِ: 6]. قَالَ: وَسُئِلَ عَنِ الْكُسْوَةِ، فَقَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الْكُسْوَةَ، إِنَّمَا ذَكَرَ الْأَكْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، فَإِنَّ “ الْأَشُدَّ “ جَمْعُ “ شَدٍّ “، كَمَا “ الْأَضُرُّ “ جَمْعُ “ ضَرٍّ “، وَكَمَا “ الْأَشُرُّ “ جَمْعُ “ شَرٍّ “، وَ“ الشَّدُّ “ الْقُوَّةُ، وَهُوَ اسْتِحْكَامُ قُوَّةِ شَبَابِهِ وَسِنِّهِ، كَمَا “ شَدُّ النَّهَارِ “ ارْتِفَاعُهُ وَامْتِدَادُهُ. يُقَالُ: “ أَتَيْتُهُ شَدَّ النَّهَارِ وَمَدَّ النَّهَارِ “، وَذَلِكَ حِينَ امْتِدَادِهِ وَارْتِفَاعِهِ; وَكَانَ الْمُفَضَّلُ فِيمَا بَلَغَنِي يُنْشِدُ بَيْتَ عَنْتَرَةَ: عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا *** خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأْسُهُ بِالْعِظْلِمِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهَارِ ظَعِينَةٌ *** طَوِيلَةُ أَنْقَاءِ الْيَدَيْنِ سَحُوقُ وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَزْعُمُ أَنَّ “ الْأَشَدَّ “ مِثْلُ “ الْآنُكِ “. فَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْحِينِ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الْإِنْسَانُ قِيلَ: “ بَلَغَ أَشُدَّهُ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ ذَلِكَ لَهُ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ رَبِيعَةَ فِي قَوْلِهِ: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، قَالَ: الْحُلْمَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَقَالَ لِي مَالِكٌ مِثْلَهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحِمَّانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَامِرٍ: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، قَالَ: “ الْأَشُدُّ “، الْحُلُمُ، حَيْثُ تُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ، وَتُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لَهُ، إِذَا بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، قَالَ: أَمَّا “ أَشُدُّهُ “، فَثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهَا: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ). [سُورَةُ النِّسَاءِ: 6]. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، تُرِكَ ذِكْرُهُ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ عَمَّا حُذِفَ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: “ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} “، فَإِذَا بَلَّغَ أَشُدَّهُ فَآنَسْتُمْ مِنْهُ رُشْدًا، فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَنْهَ أَنْ يُقْرَبَ مَالُ الْيَتِيمِ فِي حَالِ يُتْمِهِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، لِيَحِلَّ لِوَلِيِّهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَشُدَّهُ أَنْ يَقْرَبَهُ بِالَّتِي هِيَ أَسْوَأُ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَقْرَبُوهُ حِيَاطَةً مِنْهُ لَهُ، وَحِفْظًا عَلَيْهِ، لِيُسَلِّمُوهُ إِلَيْهِ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا “} وَأَنْ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ. يَقُولُ: لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمُوهُمْ، وَالْوَزْنَ إِذَا وَزَنْتُمُوهُمْ، وَلَكِنْ أَوْفُوهُمْ حُقُوقَهُمْ. وَإِيفَاؤُهُمْ ذَلِكَ، إِعْطَاؤُهُمْ حُقُوقَهُمْ تَامَّةً “ بِالْقِسْطِ “، يَعْنِي بِالْعَدْلِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (بِالْقِسْطِ)، بِالْعَدْلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى: “ الْقِسْطِ “ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، وَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا، مِنْ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، إِلَّا مَا يَسَعُهَا فَيَحِلُّ لَهَا وَلَا تُحْرَجُ فِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، عَلِمَ مِنْ عِبَادِهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَضِيقُ نَفْسُهُ عَنْ أَنْ تَطِيبَ لِغَيْرِهِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ، فَأَمَرَ الْمُعْطِي بِإِيفَاءِ رَبِّ الْحَقِّ حَقَّهُ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الزِّيَادَةَ، لِمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مِنْ ضِيقِ نَفْسِهِ بِهَا. وَأَمَرَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ، بِأَخْذِ حَقِّهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْهُ، لِمَا فِي النُّقْصَانِ عَنْهُ مِنْ ضِيقِ نَفْسِهِ. فَلَمْ يُكَلِّفْ نَفْسًا مِنْهُمَا إِلَّا مَا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا ضِيقَ، فَلِذَلِكَ قَالَ: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا بَيَانَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكَلَّمْتُمْ فَقُولُوا الْحَقَّ بَيْنَهُمْ، وَاعْدِلُوا وَأَنْصِفُوا وَلَا تَجُورُوا، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ الْحَقُّ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ، ذَا قَرَابَةٍ لَكُمْ، وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ قَرَابَةُ قَرِيبٍ أَوْ صَدَاقَةُ صَدِيقٍ حَكَمْتُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَنْ تَقُولُوا غَيْرَ الْحَقِّ فِيمَا احْتَكَمَ إِلَيْكُمْ فِيهِ (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفَوْا)، يَقُولُ: وَبِوَصِيَّةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْصَاكُمْ بِهَا فَأَوْفَوْا. وَإِيفَاءُ ذَلِكَ: أَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِلْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مِنْ قَوْمِكَ: هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَكُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْنَا رَبُّنَا، وَوَصَّاكُمْ بِهَا رَبُّكُمْ، وَأَمَرَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا لَا بِالْبَحَائِرِ، وَالسَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَالِحَامِ، وَقَتْلِ الْأَوْلَادِ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ، وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، يَقُولُ: أَمَرَكُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَوَصَّاكُمْ بِهَا وَعَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهَا، لِتَتَذَكَّرُوا عَوَاقِبَ أَمْرِكُمْ، وَخَطَأَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ، فَتَنْزَجِرُوا عَنْهَا، وَتَرْتَدِعُوا وَتُنِيبُوا إِلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ، هُنَّ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُنَّ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ، قَوْلُهُ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَى حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: سَمِعَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ، إِنَّ هَذَا لَأَوَّلُ شَيْءٍ فِي التَّوْرَاةِ: “ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ “، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ “. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ لَكَ فِي صَحِيفَةٍ عَلَيْهَا خَاتَمُ مُحَمَّدٍ؟ ثُمَّ قَرَأَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ: أَلَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ صَحِيفَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لَمْ يَقُلْ: “ خَاتَمُهَا “ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: جَاءَ إِلَيْهِ نَفَرٌ فَقَالُوا: قَدْ جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، فَحَدِّثْنَا عَنِ الْوَحْيِ. فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ “ الْأَنْعَامِ “: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ! قَالَ: فَمَا عِنْدَنَا وَحْيٌ غَيْرُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا مِنْ مُحْكَمِ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، قَالَ: قُولُوا الْحَقَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَذَا الَّذِي وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، وَأَمَرَكُمْ بِالْوَفَاءِ بِهِ، هُوَ “ صِرَاطُهُ “ يَعْنِي طَرِيقَهُ وَدِينَهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ (مُسْتَقِيمًا)، يَعْنِي قَوِيمًا لَا اعْوِجَاجَ بِهِ عَنِ الْحَقِّ (فَاتَّبِعُوهُ)، يَقُولُ: فَاعْمَلُوا بِهِ، وَاجْعَلُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْهَاجًا تَسْلُكُونَهُ، فَاتَّبِعُوهُ (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، يَقُولُ: وَلَا تَسْلُكُوا طَرِيقًا سِوَاهُ، وَلَا تَرْكَبُوا مَنْهَجًا غَيْرَهُ، وَلَا تَبْغُوا دِينًا خِلَافَهُ، مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمِلَلِ، فَإِنَّهَا بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، يَقُولُ: فَيُشَتِّتَ بِكُمْ- إِنِ اتَّبَعْتُمُ السُّبُلَ الْمُحْدَثَةَ الَّتِي لَيْسَتْ لِلَّهِ بِسُبُلٍ وَلَا طُرُقٍ وَلَا أَدْيَانٍ- اتِّبَاعُكُمْ إِيَّاهَا “ عَنْ سَبِيلِهِ “، يَعْنِي: عَنْ طَرِيقِهِ وَدِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ وَارْتَضَاهُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، وَأَمَرَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ: “ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ “، وَصَّاكُمْ بِهِ “ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “، يَقُولُ: لِتَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَا تُهْلِكُوهَا، وَتَحْذَرُوا رَبَّكُمْ فِيهَا فَلَا تُسْخِطُوهُ عَلَيْهَا، فَيَحِلَّ بِكُمْ نِقْمَتُهُ وَعَذَابُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، قَالَ: الْبِدَعَ وَالشُّبَهَاتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، الْبِدَعَ وَالشُّبَهَاتِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سُورَةُ الشُّورَى: 13]، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، يَقُولُ: لَا تَتْبَعُوا الضَّلَالَاتِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ «قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ. ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطًا فَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}»). حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، قَالَ: “ سَبِيلُهُ “، الْإِسْلَامُ، وَ“ صِرَاطُهُ “، الْإِسْلَامُ. نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا السُّبُلَ سِوَاهُ {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، عَنِ الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبَانَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ، وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادُّ، وَعَنْ يَسَارِهِ جَوَادُّ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ. فَمَنْ أُخِذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِّ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنْ أُخِذَ عَلَى الصِّرَاطِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا}، الْآيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا). فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (وَأَنَّ) بِفَتْحِ “ الْأَلِفِ “ مِنْ “ أَنَّ “، وَتَشْدِيدِ “ النُّونِ “، رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: {أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، بِمَعْنَى: “ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} “، “ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} “. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: “ وَإِنَّ “ بِكَسْرِ “ الْأَلِفِ “ مِنْ “ إِنَّ “، وَتَشْدِيدِ “النُّونِ “ مِنْهَا، عَلَى الِابْتِدَاءِ وَانْقِطَاعِهَا عَنِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ كَانَ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى بِالْخَبَرِ عَنِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي أَوْصَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ دُونَهُ، عِنْدَهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ وَعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، صَحِيحٌ مَعْنَيَاهُمَا، فَبِأَيِ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ الْحَقَّ فِي قِرَاءَتِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، كَمَا أَمَرَ عِبَادَهُ الْأَنْبِيَاءَ. وَإِنْ أَدْخَلَ ذَلِكَ مُدْخِلٌ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، وَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، فَفَتَحَ عَلَى ذَلِكَ “ أَنَّ “، فَمُصِيبٌ وَإِنْ كَسَرَهَا، إِذْ كَانَتِ “ التِّلَاوَةُ “ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ “ الْقَوْلِ “ لِبُعْدِهَا مِنْ قَوْلِهِ: “ أَتْلُ “، وَهُوَ يُرِيدُ إِعْمَالَ ذَلِكَ فِيهِ، فَمُصِيبٌ وَإِنْ كَسَرَهَا بِمَعْنَى ابْتِدَاءٍ وَانْقِطَاعٍ عَنِ الْأَوَّلِ وَ“ التِّلَاوَةِ “، وَأَنَّ مَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَتِهِ عَلَى مَنْ أُمِرَ بِتِلَاوَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَدِ انْتَهَى دُونَ ذَلِكَ، فَمُصِيبٌ. وَقَدْ قَرَأَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْبَصَرِيُّ: “ وَأَنْ “ بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ “ أَنْ “ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْهَا، بِمَعْنَى: “ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} “، “ وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي “، فَخَفَّفَهَا؛ إِذْ كَانَتْ “ أَنْ “ فِي قَوْلِهِ: (أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، مُخَفَّفَةً، وَكَانَتْ “ أَنْ “ فِي قَوْلِهِ (وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي)، مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا، فَجَعَلَهَا نَظِيرَةَ مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا، فَلَا أُحِبُّ الْقِرَاءَةَ بِهِ، لِشُذُوذِهَا عَنْ قِرَاءَةِ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، وَخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي أَمْصَارِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)، ثُمَّ قُلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ: آتَى رَبُّكَ مُوسَى الْكِتَابَ فَتَرَكَ ذِكْرَ “ قُلْ “، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ فِيهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، فَقَصَّ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَأَحَلَّ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ قُلْ: “ آتَيْنَا مُوسَى “، فَحَذَفَ “ قُلْ “ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: “ قُلْ “ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ بُعِثَ بَعْدَ مُوسَى بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِتِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَنْ أُمِرَ بِتِلَاوَتِهَا عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى أُوتِيَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِ أَمْرِ اللَّهِ مُحَمَّدًا بِتِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَنْ أُمِرَ بِتِلَاوَتِهَا عَلَيْهِ. وَ“ ثُمَّ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ، بَعْدَ الَّذِي قَبْلَهَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: تَمَامًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)، قَالَ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)، الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُحْسِنِينَ. وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ فَضِيلَةً عَلَى مَا آتَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)، فَيُوَحِّدَ “ الَّذِي “، وَالتَّأْوِيلُ عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا؟ قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ خَاصَّةً فِي “ الَّذِي “ وَفِي “ الْأَلِفِ وَاللَّامِ “، إِذَا أَرَادَتْ بِهِ الْكُلَّ وَالْجَمِيعَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، [سُورَةُ الْعَصْرِ: 1، 2]، وَكَمَا قَالُوا: “ كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ “. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: “ تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا “، وَذَلِكَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَذَلِكَ، يُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، كَانَ قَوْلُهُ: “ أَحْسَنَ “، فِعْلًا مَاضِيًا، فَيَكُونُ نَصْبُهُ لِذَلِكَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ “ أَحْسَنَ “ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، غَيْرَ أَنَّهُ نُصِبَ إِذْ كَانَ “ أَفْعَلَ “، وَ“ أَفْعَلَ “، لَا يَجْرِي فِي كَلَامِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَبِأَيِ شَيْءٍ خُفِضَ؟ قِيلَ: رَدًّا عَلَى “ الَّذِي “، إِذْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَا يَرْفَعُهُ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ، ثُمَّ حَذَفَ “ هُوَ “، وَجَاوَرَ “ أَحْسَنَ “ “ الَّذِي “، فَعُرِّبَ بِتَعْرِيبِهِ، إِذْ كَانَ كَالْمَعْرِفَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ “ الْأَلِفَ وَاللَّامَ “ لَا يَدْخُلَانِهِ، “ وَالَّذِي “ مِثْلُهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: “ مَرَرْتُ بِالَّذِي خَيْرٍ مِنْكَ، وَشَرٍّ مِنْكَ “، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: إِنَّ الزُّبَيْرِيَّ الَّذِي مِثْلَ الْحَلَمْ *** مَسَّى بِأَسْلَابِكُمُ أَهْلَ الْعَلَمْ فَأَتْبَعَ “ مِثْلَ “ “ الَّذِي “، فِي الْإِعْرَابِ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ، لَمْ يَقُلْ: مَرَرْتُ “ بِالَّذِي عَالِمٍ “؛ لِأَنَّ “ عَالِمًا “ نَكِرَةٌ، “ وَالَّذِي “ مَعْرِفَةٌ، وَلَا تَتْبَعُ نَكِرَةٌ مَعْرِفَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ “، مُوسَى، فِيمَا امْتَحَنَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنَ}، فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا، تَمَّمَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، يَقُولُ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا، تَمَّتْ عَلَيْهِ كَرَامَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الرَّبِيعُ، يَكُونُ “ أَحْسَنَ “، نَصْبًا؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَ“ الَّذِي “ بِمَعْنَى “ مَا “ وَكَأَنَّ الْكَلَامَ حِينَئِذٍ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى مَا أَحْسَنَ مُوسَى أَيْ: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ لِأُتَمِّمَ لَهُ كَرَامَتِي فِي الْآخِرَةِ، تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، قَالَ: تَمَامًا مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَآتَاهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ تَمَامًا، لِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ. “ وَأَحْسَنَ “ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، “ وَالَّذِي “ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ الرَّبِيعُ، بِمَعْنَى: “ مَا “. وَذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: “ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ “ رَفْعًا بِتَأْوِيلٍ: عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ صَحِيحٌ، لِخِلَافِهَا مَا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةً مِنْ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا لِنَعَمِنَا عِنْدَهُ، عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى فِي قِيَامِهِ بِأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِيهِ فِي الْكَلَامِ، وَأَنَّ إِيتَاءَ مُوسَى كِتَابَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمِنَّةٌ عَظِيمَةٌ. فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَنْعَمَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ لِمَا سَلَفَ لَهُ مِنْ صَالِحِ عَمَلٍ وَحُسْنِ طَاعَةٍ. وَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، كَانَ الْكَلَامُ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَّا أَوْ: ثُمَّ آتَى اللَّهُ مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ. وَفِي وَصْفِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَفْسَهُ بِإِيتَائِهِ الْكِتَابَ، ثُمَّ صَرَفَهُ الْخَبَرُ بِقَوْلِهِ: “ أَحْسَنَ “، إِلَى غَيْرِ الْمُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ بِقُرْبِ مَا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ تَوْجِيهِهِ “ الَّذِي “ إِلَى مَعْنَى الْجَمِيعِ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ ظَاهِرُ الْكَلَامِ بِالَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ أَشْبَهُ. وَإِذَا تُنُوزِعَ فِي تَأْوِيلِ الْكَلَامِ، كَانَ أَوْلَى مَعَانِيهِ بِهِ أَغْلَبَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَقْلِ أَوِ الْخَبَرِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَتَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ تَمَامًا لِنِعَمِنَانَا عِنْدَهُ وَأَيَادِينَا قِبَلَهُ، تَتِمُّ بِهِ كَرَامَتُنَا عَلَيْهِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَطَاعَتِهِ رَبَّهُ وَقِيَامِهِ بِمَا كَلَّفَهُ مِنْ شَرَائِعَ دِينِهِ، وَتَبْيِينًا لِكُلِّ مَا بِقَوْمِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ (وَهُدًى)، يَعْنِي بِقَوْلِهِ “ وَهُدًى “، تَقْوِيمًا لَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَبَيَانًا لَهُمْ سُبُلَ الرَّشَادِ لِئَلَّا يَضِلُّوا (وَرَحْمَةً)، يَقُولُ: وَرَحْمَةً مِنَّا بِهِمْ وَرَأْفَةً، لِنُنْجِيَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَعَمَى الْحَيْرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِيتَائِي مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ مُوسَى، عَلَى إِحْسَانِ مُوسَى، وَتَفْصِيلًا لِشَرَائِعِ دِينِهِ، وَهُدًى لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَرَحْمَةً لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ ضَالًّا لِيُنْجِيَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَلِيُؤْمِنَ بِلِقَاءِ رَبِّهِ إِذَا سَمِعَ مَوَاعِظَ اللَّهِ الَّتِي وَعَظَ بِهَا خَلْقَهُ فِيهِ، فَيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَبِلِقَائِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَيُطِيعَ رَبَّهُ، وَيُصَدِّقَ بِمَا جَاءَهُ بِهِ نَبِيُّهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
|